كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



إِنَّمَا تَعَرَّضْتُ هُنَا لِرِبَا الْفَضْلِ وَهُوَ لَيْسَ مِمَّا تَتَنَاوَلُهُ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ لِلتَّفْرِقَةِ، وَلِأَنَّ مَسْأَلَةَ الرِّبَا قَدْ قَامَتْ لَهَا الْبِلَادُ الْمِصْرِيَّةُ وَقَعَدَتْ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، وَاقْتَرَحَ كَثِيرُونَ إِنْشَاءَ بَنْكٍ إِسْلَامِيٍّ وَأُلْقِيَتْ فِيهَا خُطَبٌ كَثِيرَةٌ فِي نَادِي دَارِ الْعُلُومِ بِالْقَاهِرَةِ خَالَفَ فِيهَا بَعْضُ الْخُطَبَاءِ بَعْضًا فَمَالَ بَعْضُهُمْ إِلَى مَنْعِ كُلِّ مَا عَدَّهُ الْفُقَهَاءُ مِنَ الرِّبَا، وَأَنْحَى بَعْضُهُمْ عَلَى الْفُقَهَاءِ وَلَمْ يَعْتَدَّ بِقَوْلِهِمْ، وَمَالَ آخَرُونَ إِلَى عَدَمِ مَنْعِ رِبَا الْفَضْلِ أَوِ الْمُضَاعَفِ، فَغَلَا بَعْضُهُمْ وَتَوَسَّطَ بَعْضٌ، وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِتَحْرِيرِ الْبَحْثِ وَإِقْنَاعِ النَّاسِ بِشَيْءٍ يَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ الرَّأْيُ، وَفِي اللَّيْلَةِ الَّتِي خُتِمَ فِيهَا هَذَا الْبَحْثُ أَلْقَى كَاتِبُ هَذَا خِطَابًا وَجِيزًا فِي الْمَسْأَلَةِ قَالَ رَئِيسُ النَّادِي حِفْنِي بِكْ نَاصِفْ فِي خُطْبَتِهِ الْخِتَامِيَّةِ: أنه فَصْلُ الْخِطَابِ وَرَغَّبَ إِلَيْنَا هُوَ (رَئِيسُ النَّادِي) وَغَيْرُهُ أَنْ نُدَوِّنَهُ، وَهَذَا هُوَ بِالْمَعْنَى: إِنَّ اللهَ تعالى قَدْ حَرَّمَ رِبَا النَّسِيئَةِ الَّذِي كَانَتْ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّةُ تَحْرِيمًا صَرِيحًا وَنَهَى عَنْهُ نَهْيًا مُؤَكَّدًا، وَوَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ تَحْرِيمُ رِبَا الْفَضْلِ وَالنَّهْيُ عَنْهُ، فَالْبَحْثُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
(الْوَجْهُ الْأَوَّلُ) النَّظَرُ فِيهَا مِنَ الْجِهَةِ النَّظَرِيَّةِ الْمَعْقُولَةِ فَتَقُولُ: إِنَّ كُلَّ مَا جَاءَ بِهِ الإسلام مِنَ الْأَحْكَامِ الثَّانِيَةِ! الْمُحْكَمَةِ فَهُوَ خَيْرٌ وَإِصْلَاحٌ لِلْبَشَرِ وَمُوَافِقٌ لِمَصَالِحِهِمْ مَا تَمَسَّكُوا بِهِ، وَلَكِنْ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَظُنُّ الْيَوْمَ أَنَّ إِبَاحَةَ الرِّبَا رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْمَدَنِيَّةِ لَا تَقُومُ بِدُونِهِ، فَالْأُمَّةُ الَّتِي لَا تَتَعَامَلُ بِالرِّبَا لَا تَرْتَقِي مَدَنِيَّتُهَا وَلَا يُحْفَظُ كِيَانُهَا، وَهَذَا بَاطِلٌ فِي نَفْسِهِ، إِذْ لَوْ فَرَضْنَا أَنْ تَرَكَتْ جَمِيعُ الْأُمَمِ أَكْلَ الرِّبَا فَصَارَ الْوَاجِدُونَ فِيهَا يُقْرِضُونَ الْعَادِمِينَ قَرْضًا حَسَنًا، وَيَتَصَدَّقُونَ عَلَى الْبَائِسِينَ وَالْمُعْوِزِينَ، وَيَكْتَفُونَ بِالْكَسْبِ مِنْ مَوَارِدِهِ الطَّبِيعِيَّةِ كَالزِّرَاعَةِ وَالصِّنَاعَةِ وَالتِّجَارَةِ وَالشَّرِكَاتِ وَمِنْهَا الْمُضَارَبَةُ لَمَا زَادَتْ مَدَنِيَّتُهُمْ إِلَّا ارْتِقَاءً بِبِنَائِهَا عَلَى أَسَاسِ الْفَضِيلَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالتَّعَاوُنِ الَّذِي يُحَبِّبُ الْغَنِيَّ إِلَى الْفَقِيرِ وَلَمَا وُجِدَ فِيهَا الِاشْتِرَاكِيُّونَ الْغَالُونَ، وَالْفَوْضَوِيُّونَ الْمُتَغَالُونَ، وَقَدْ قَامَتْ لِلْعَرَبِ مَدَنِيَّةٌ إِسْلَامِيَّةٌ لَمْ يَكُنِ الرِّبَا مِنْ أَرْكَانِهَا فَكَانَتْ خَيْرَ مَدَنِيَّةٍ فِي زَمَنِهِمْ، فَمَا شَرَعَهُ الإسلام مِنْ مَنْعِ الرِّبَا عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَدَنِيَّةِ وَالْفَضِيلَةِ، وَهُوَ أَفْضَلُ هِدَايَةٍ لِلْبَشَرِ فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا.
(الْوَجْهُ الثَّانِي) النَّظَرُ فِيهَا مِنَ الْجِهَةِ الْعَمَلِيَّةِ بِحَسَبِ حَالِ الْمُسْلِمِينَ الْآنَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْبِلَادِ فَإِنَّنَا نَرَى كَثِيرِينَ يُوَافِقُونَنَا عَلَى أنه لَوْ وُجِدَ لِلْإِسْلَامِ دُوَلٌ قَوِيَّةٌ وَأُمَمٌ عَزِيزَةٌ تُقِيمُ الشَّرْعَ وَتَهْتَدِي بِهَدْيِ الْقُرْأن لامْكَنَهَا الِاسْتِغْنَاءُ عَنِ الرِّبَا، وَلَكَانَتْ مَدَنِيَّتُهَا بِذَلِكَ أَفْضَلَ، فَلَا اعْتِرَاضَ عَلَى الإسلام فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا، لِأَنَّ شَرْعَهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُبِيحَ الرِّبَا، وَهُوَ دِينٌ غَرَضُهُ تَهْذِيبُ النُّفُوسِ وَإِصْلَاحُ حَالِ الْمُجْتَمَعِ لَا تَوْفِيرُ ثَرْوَةِ بَعْضِ الْأَفْرَادِ مِنْ أَهْلِ الْأَثَرَةِ، وَلَكِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّنَا نَعِيشُ فِي زَمَنٍ لَيْسَ فِيهِ أُمَمٌ إِسْلَامِيَّةٌ ذَاتُ دُوَلٍ قَوِيَّةٍ تُقِيمُ الإسلام وَتَسْتَغْنِي عَمَّنْ يُخَالِفُهَا فِي أحكامها، وَإِنَّمَا زِمَامُ الْعَالَمِ فِي أَيْدِي أُمَمٍ مَادِّيَّةٍ قَدْ قَبَضَتْ عَلَى أَزِمَّةِ الثَّرْوَةِ فِي الْعَالَمِ حَتَّى صَارَ سَائِرُ الْأُمَمِ وَالشُّعُوبِ عِيَالًا عَلَيْهَا. فَمَنْ جَارَاهَا مِنْهُمْ فِي طُرُقِ كَسْبِهَا- وَالرِّبَا مِنْ أَرْكَانِهِ- فَهُوَ الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يَحْفَظَ وُجُودَهُ مَعَهَا. وَمَنْ لَمْ يُجَارِهَا فِي ذَلِكَ انْتَهَى أَمْرُهُ بِأن يكون مُسْتَعْبَدًا لَهَا، فَهَلْ يُبِيحُ الإسلام لِشَعْبٍ مُسْلِمٍ- هَذِهِ حَالُهُ مَعَ الْأُورُوبِّيِّينَ كَالشَّعْبِ الْمِصْرِيِّ- أَنْ يَتَعَامَلَ بِالرِّبَا لِيَحْفَظَ ثَرْوَتَهُ وَيُنَمِّيَهَا فَيَكُونُ أَهْلًا لِلِاسْتِقْلَالِ أَمْ يُحَرِّمُ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَالْحَالَةُ حَالَةُ ضَرُورَةٍ- وَيُوجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَرْضَى بِاسْتِنْزَافِ الْأَجْنَبِيِّ لِثَرْوَتِهِ وَهِيَ مَادَّةُ حَيَاتِهِ؟
هَذَا مَا يَقُولُهُ كَثِيرٌ مِنْ مُسْلِمِي مِصْرَ الْآنَ.
وَالْجَوَابُ عَنْهُ- بَعْدَ تَقْرِيرِ قَاعِدَةٍ أَنَّ الإسلام يُوَافِقُ مَصَالِحَ الْآخِذِينَ بِهِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ- مِنْ وَجْهَيْنِ يُوَجَّهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى فَرِيقٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
أَمَّا الْأَوَّلُ فَيُوَجَّهُ إِلَى فَرِيقِ الْمُقَلِّدِينَ- وَهُمْ أَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الْعَصْرِ- فَيُقَالُ لَهُمْ: إِنَّ فِي مَذَاهِبِكُمُ الَّتِي تَتَقَلَّدُونَهَا مَخْرَجًا مِنْ هَذِهِ الضَّرُورَةِ الَّتِي تَدَّعُونَهَا، وَذَلِكَ بِالْحِيلَةِ الَّتِي أَجَازَهَا الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ الَّذِي يَنْتَمِي إِلَى مَذْهَبِهِ أَكْثَرُ أَهْلِ هَذَا الْقُطْرِ، وَالْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ الَّذِي يَتَحَاكَمُونَ عَلَى مَذْهَبِهِ كَافَّةً، وَمِثْلُهُمْ فِي ذَلِكَ أَهْلُ الْمَمْلَكَةِ الْعُثْمَانِيَّةِ الَّتِي أُنْشِئَتْ فِيهَا مَصَارِفُ (بُنُوكُ) الزِّرَاعَةِ بِأَمْرِ السُّلْطَانِ، وَهِيَ تُقْرِضُ بِالرِّبَا الْمُعْتَدِلِ مَعَ إِجْرَاءِ حِيلَةِ الْمُبَايَعَةِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا الْمُبَايَعَةَ الشَّرْعِيَّةَ.
وَأَمَّا الثَّانِي فَيُوَجَّهُ إِلَى أَهْلِ الْبَصِيرَةِ فِي الدِّينِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الدَّلِيلَ وَيَتَحَرَّوْنَ مَقَاصِدَ الشَّرْعِ فَلَا يُبِيحُونَ لِأَنْفُسِهِمُ الْخُرُوجَ عَنْهَا بِحِيلَةٍ وَلَا تَأْوِيلٍ، فَيُقَالُ لَهُمْ: إِنَّ الإسلام كُلَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى قَاعِدَةِ الْيُسْرِ وَرَفْعِ الْحَرَجِ وَالْعُسْرِ الثَّابِتَةِ بِنَصِّ قوله تعالى: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [2: 185] وَقوله: {مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [5: 6] وَإِنَّ الْمُحَرَّمَاتِ فِي الإسلام قِسْمَانِ: الْأَوَّلُ مَا هُوَ مُحَرَّمٌ لِذَاتِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الضَّرَرِ وَهُوَ لَا يُبَاحُ إِلَّا لِضَرُورَةٍ، وَمِنْهُ رِبَا النَّسِيئَةِ الْمُتَّفَقُ عَلَى تَحْرِيمِهِ، وَهُوَ مِمَّا لَا تَظْهَرُ الضَّرُورَةُ إِلَى أَكْلِهِ، أَيْ إِلَى أَنْ يُقْرِضَ الْإِنْسَانُ غَيْرَهُ فَيَأْكُلَ مَالَهُ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً، كَمَا تَظْهَرُ فِي أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ أَحْيَانًا. وَالثَّانِي مَا هُوَ مُحَرَّمٌ لِغَيْرِهِ كَرِبَا الْفَضْلِ الْمُحَرَّمِ لِئَلَّا يَكُونَ ذَرِيعَةً وَسَبَبًا لِرِبَا النَّسِيئَةِ وَهُوَ يُبَاحُ لِلضَّرُورَةِ بَلْ وَلِلْحَاجَةِ كَمَا قَالَهُ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ وَأَوْرَدَ لَهُ الْأَمْثِلَةَ مِنَ الشَّرْعِ فَقَسَّمَ الرِّبَا إِلَى جَلِيٍّ وَخَفِيٍّ وَعَدَّهُ مِنَ الْخَفِيِّ (وَقَدْ ذَكَرْنَا عِبَارَتَهُ آنِفًا).
فَأَمَّا الْأَفْرَادُ مِنْ أَهْلِ الْبَصِيرَةِ فَيَعْرِفُ كُلٌّ مِنْ نَفْسِهِ هَلْ هُوَ مُضْطَرٌّ أَوْ مُحْتَاجٌ إِلَى أَكْلِ هَذَا الرِّبَا وَإِيكَالِهِ غَيْرَهُ فَلَا كَلَامَ لَنَا فِي الْأَفْرَادِ، وَإِنَّمَا الْمُشْكِلُ تَحْدِيدُ ضَرُورَةِ الْأُمَّةِ أَوْ حَاجَتِهَا فَهُوَ الَّذِي فِيهِ التَّنَازُعُ، وَعِنْدِي أنه لَيْسَ لِفَرْدٍ مِنَ الْأَفْرَادِ أَنْ يَسْتَقِلَّ بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا يُرَدُّ مِثْلُ هَذَا الأمر إِلَى أُولِي الأمر مِنَ الْأُمَّةِ، أَيْ أَصْحَابِ الرَّأْيِ وَالشَّأْنِ فِيهَا وَالْعِلْمِ بِمَصَالِحِهَا عَمَلًا بِقوله تعالى فِي مِثْلِهِ مِنَ الْأُمُورِ الْعَامَّةِ: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأمر مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [4: 83] فَالرَّأْيُ عِنْدِي أَنْ يَجْتَمِعَ أُولُو الأمر مِنْ مُسْلِمِي هَذِهِ الْبِلَادِ- وَهُمْ كِبَارُ الْعُلَمَاءِ الْمُدَرِّسِينَ وَالْقُضَاةُ وَرِجَالُ الشُّورَى وَالْمُهَنْدِسُونَ وَالْأَطِبَّاءُ وَكِبَارُ الْمُزَارِعِينَ وَالتُّجَّارُ- وَيَتَشَاوَرُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَسْأَلَةِ ثُمَّ يَكُونُ الْعَمَلُ بِمَا يُقَرِّرُونَ أنه قَدْ مَسَّتْ إِلَيْهِ الضَّرُورَةُ أَوْ أَلْجَأَتْ إِلَيْهِ حَاجَةُ الْأُمَّةِ.
هَذَا هُوَ مَعْنَى مَا قُلْتُهُ فِي نَادِي دَارِ الْعُلُومِ.
هَذَا وَإِنَّ مُسْلِمِي الْهِنْدِ قَدْ سَبَقُوا مُسْلِمِي مِصْرَ إِلَى الْبَحْثِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَأَكْثَرُوا الْكِتَابَةَ فِيهَا فِي الْجَرَائِدِ وَلَكِنَّهُمْ طَرَقُوا بَابًا لَمْ يَطْرُقْهُ الْمِصْرِيُّونَ وَهُوَ مَا جَاءَ فِي بَعْضِ الْمَذَاهِبِ مِنْ إِبَاحَةِ جَمِيعِ الْمُعَامَلَاتِ الْبَاطِلَةِ وَالْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ فِي غَيْرِ دَارِ الإسلام، وَالْأَصْلُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الإسلام لَمْ يُحَرِّمِ الرِّبَا وَلَا غَيْرَهُ مِنَ الْمُعَامَلَاتِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ صَارَ لَهُ سُلْطَةٌ وَحُكْمٌ فِي دَارِ الْهِجْرَةِ، وَكَأَنَّهُمْ يَرَوْنَ الْمَجَالَ وَاسِعًا لِلْبَحْثِ فِي بِلَادِ الْهِنْدِ هَلْ هِيَ دَارُ إِسْلَامٍ أَمْ لَا؟ دُونَ بِلَادِ مِصْرَ الَّتِي لَا تَزَالُ حُكُومَتُهَا الرَّسْمِيَّةُ إِسْلَامِيَّةً بِحَسَبِ قَوَانِينِ الدُّوَلِ وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنَ السُّلْطَانِ صَاحِبِ السِّيَادَةِ عَلَى هَذِهِ الْبِلَادِ وَالْأَمِيرِ وَالْقَاضِي النَّائِبِينَ عَنْهُ فِيهَا لَا يَسْتَطِيعُونَ مَنْعَ الرِّبَا مِنْهَا وَلَا غَيْرَ الرِّبَا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي أَبَاحَهَا الْقَانُونُ الْمِصْرِيُّ.
وَالْأَضْعَافُ جَمْعُ قِلَّةٍ لِضِعْفٍ (بِكَسْرِ الضَّادِ) وَضِعْفُ الشَّيْءِ مِثْلُهُ الَّذِي يَثْنِيهِ فَضِعْفُ الْوَاحِدِ وَاحِدٌ فَهُوَ إِذَا أُضِيفَ إِلَيْهِ ثَنَّاهُ، وَهُوَ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُتَضَايِفَةِ، أَيِ الَّتِي يَقْتَضِي وُجُودُهَا وُجُودَ آخَرَ مِنْ جِنْسِهَا كَالنِّصْفِ وَالزَّوْجِ وَيَخْتَصُّ بِالْعَدَدِ، فَإِذَا ضَاعَفْتَ الشَّيْءَ ضَمَمْتَ إِلَيْهِ مِثْلَهُ مَرَّةً فَأَكْثَرَ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِذَا قُلْنَا إِنَّ الْأَضْعَافَ الْمُضَاعَفَةَ فِي الزِّيَادَةِ فَقَطْ (الَّتِي هِيَ الرِّبَا) يَصِحُّ مَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُ الْجَلَالُ فِي تَصْوِيرِ الْمَسْأَلَةِ بِتَأْخِيرِ أَجَلِ الدَّيْنِ وَالزِّيَادَةِ فِي الْمَالِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي كَانَ مَعْرُوفًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَيَصِحُّ أيضا أَنْ تَكُونَ الْأَضْعَافُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى رَأْسِ الْمَالِ وَهَذَا وَاقِعٌ الْآنَ، فَإِنَّنِي رَأَيْتُ فِي مِصْرَ مَنِ اسْتَدَانَ بِرِبَا ثَلَاثَةٍ فِي الْمِائَةِ كُلَّ يَوْمٍ، فَانْظُرْ كَمْ ضِعْفًا يَكُونُ فِي السَّنَةِ! وَقَدْ قَالَ: (مُضَاعَفَةً) بَعْدَ ذِكْرِ الْأَضْعَافِ كَأَنَّ الْعَقْدَ قَدْ يَكُونُ ابْتِدَاءً عَلَى الْأَضْعَافِ ثُمَّ تَأْتِي الْمُضَاعَفَةُ بَعْدَ ذَلِكَ بِتَأْخِيرِ الْأَجَلِ وَزِيَادَةِ الْمَالِ.
وَأَقُولُ: حَاصِلُ الْمَعْنَى لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا حَالَ كَوْنِهِ أَضْعَافًا تُضَاعَفُ بِتَأْخِيرِ أَجَلِ الدَّيْنِ الَّذِي هُوَ رَأْسُ الْمَالِ، وَزِيَادَةُ الْمَالِ ضِعْفُ مَا كَانَ كَمَا كُنْتُمْ تَفْعَلُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ؛ فَإِنَّ الإسلام لَا يُبِيحُ لَكُمْ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنَ الْقَسْوَةِ وَالْبُخْلِ وَاسْتِغْلَالِ ضَرُورَةِ الْمُعْوِزِ أَوْ حَاجَتَهُ وَاتَّقُوا اللهَ فِي أَهْلِ الْحَاجَةِ وَالْبُؤْسِ فَلَا تُحَمِّلُوهُمْ مِنَ الدَّيْنِ هَذِهِ الْأَثْقَالَ الَّتِي تَرْزَحُهُمْ وَرُبَّمَا تُخْرِبُ بُيُوتَهُمْ لَعَلَّكُمْ تَفْلَحُونَ فِي دُنْيَاكُمْ بِالتَّرَاحُمِ وَالتَّعَاوُنِ فَتَتَحَابُّونَ، وَالْمَحَبَّةُ أُسُّ السَّعَادَةِ وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ الَّذِينَ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَاسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الطَّمَعُ وَالْبُخْلُ فَكَانُوا فِتْنَةً لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَأَعْدَاءِ الْبَائِسِينَ وَالْمُعْوِزِينَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فِيمَا نَهَيا عَنْهُ مِنْ أَكْلِ الرِّبَا وَمَا أَمَرَا بِهِ مِنَ الصَّدَقَةِ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ فِي الدُّنْيَا بِمَا تُفِيدُكُمُ الطَّاعَةُ مِنْ صَلَاحِ حَالِ مُجْتَمَعِكُمْ، وَفِي الْآخِرَةِ بِحُسْنِ الْجَزَاءِ عَلَى أَعْمَالِكُمْ؛ فَإِنَّ الرَّاحِمِينَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ عِنْدَ أَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ، وَقَدْ رَوَيْنَاهُ مُسَلْسَلًا.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: قوله: {وَاتَّقُوا النَّارَ} إِلَخْ وَعِيدٌ لِلْمُرَابِينَ بِجَعْلِهِمْ مَعَ الْكَافِرِينَ إِذَا عَمِلُوا فِيهِ عَمَلَهُمْ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ إِلَى أَنَّ الرِّبَا قَرِيبٌ مِنَ الْكُفْرِ. وَهَذَا الْقَوْلُ بَعْدَ قوله: {وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} تَأْكِيدٌ بَعْدَ تَأْكِيدٍ، ثُمَّ أَكَّدَهُ أيضا بِالأمر بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ الرَّسُولِ، فَمُؤَكِّدَاتُ التَّنْفِيرِ مِنَ الرِّبَا أَرْبَعَةٌ. وَقَدْ قُلْنَا مِنْ قَبْلُ: إِنَّ مَسْأَلَةَ الرِّبَا لَيْسَتْ مَدَنِيَّةً مَحْضَةً بَلْ هِيَ دِينِيَّةٌ أيضا، وَالْغَرَضُ الدِّينِيُّ مِنْهَا التَّرَاحُمُ الْمُفْضِي إِلَى التَّعَاوُنِ، فَالْمُقْرِضُ الْيَوْمَ قَدْ يَكُونُ مُقْتَرِضًا غَدًا، فَمَنْ أَعَانَ جَدِيرٌ بِأَنْ يُعَانَ.
ثُمَّ ذَكَرَ جَزَاءَ الْمُتَّقِينَ بَعْدَ الأمر الْمُؤَكَّدِ بِاتِّقَاءِ النَّارِ اتِّبَاعًا لِلْوَعِيدِ بِالْوَعْدِ وَقَرْنًا لِلتَّرْهِيبِ بِالتَّرْغِيبِ كَمَا هِيَ سُنَّتُهُ فَقَالَ: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الْمُسَارَعَةُ إِلَى الْمَغْفِرَةِ وَالْجَنَّةِ هِيَ الْمُبَادَرَةُ إِلَى أَسْبَابِهَا وَمَا يُعِدُّ الْإِنْسَانُ لِنَيْلِهِمَا مِنَ التَّوْبَةِ عَنِ الْإِثْمِ كَالرِّبَا وَالْإِقْبَالِ عَلَى الْبِرِّ كَالصَّدَقَةِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ {سَارِعُوا} بِغَيْرِ وَاوٍ. وَالْمُرَادُ بِكَوْنِ عَرْضِ الْجَنَّةِ كَعَرْضِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْمُبَالَغَةُ فِي وَصْفِهَا بِالسَّعَةِ وَالْبَسْطَةِ تَشْبِيهًا لَهَا بِأَوْسَعِ مَا عَلِمَهُ النَّاسُ، وَخَصَّ الْعَرْضَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ يَكُونُ عَادَةً أَقَلَّ مِنَ الطُّولِ. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: إِنَّ هَذَا الْوَصْفَ عَلَى طَرِيقَةِ التَّمْثِيلِ. وَقَالَ فِي قوله: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}: هُيِّئَتْ لَهُمْ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْجَنَّةَ مَخْلُوقَةٌ وَأَنَّهَا خَارِجَةٌ عَنْ هَذَا الْعَالَمِ. اهـ.
وَهُوَ مَا احْتَجَّ بِهِ الْأَشَاعِرَةُ عَلَى مَنْ قَالَ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ: إِنَّهَا لَيْسَتْ بِمَخْلُوقَةٍ الْآنَ كَمَا فِي كُتُبِ الْعَقَائِدِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْجَنَّةِ هَلْ هِيَ مَوْجُودَةٌ بِالْفِعْلِ أَمْ تُوجَدُ بَعْدُ فِي الْآخِرَةِ؟ وَلَا مَعْنَى لِهَذَا الْخِلَافِ وَلَا هُوَ مِمَّا يَصِحُّ التَّفَرُّقُ وَاخْتِلَافُ الْمَذَاهِبِ فِيهِ، ثُمَّ وَصَفَ الْمُتَّقِينَ بِالصِّفَاتِ الْخَمْسِ الْآتِيَةِ فَقَالَ:
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ أَيْ فِي حَالَةِ الرَّخَاءِ وَالسَّعَةِ وَحَالَةِ الضِّيقِ وَالْعُسْرَةِ، كُلُّ حَالَةٍ بِحَسَبِهَا كَمَا قال تعالى فِي بَيَانِ حُقُوقِ النِّسَاءِ الْمُعْتَدَّاتِ: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللهُ لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [65: 7] وَالسَّرَّاءُ مِنَ السُّرُورِ أَيِ الْحَالَةُ الَّتِي تَسُرُّ، وَالضَّرَّاءُ مِنَ الضَّرَرِ أَيِ الْحَالَةُ الضَّارَّةُ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ تَفْسِيرَهُمَا بِالْيُسْرِ وَالْعُسْرِ.
وَقَدْ بَدَأَ وَصْفُ الْمُتَّقِينَ بِالْإِنْفَاقِ لِوَجْهَيْنِ:
(أَحَدُهُمَا) مُقَابَلَتُهُ بِالرِّبَا الَّذِي نُهِيَ عَنْهُ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ؛ فَإِنَّ الرِّبَا هُوَ اسْتِغْلَالُ الْغَنِيِّ حَاجَةَ الْمُعْوِزِ وَأَكْلُ مَالِهِ بِلَا مُقَابِلٍ، وَالصَّدَقَةُ إِعَانَةٌ لَهُ وَإِطْعَامُهُ مَا لَا يَسْتَحِقُّهُ فَهِيَ ضِدُّ الرِّبَا، وَلَمْ يَرِدْ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرُ الرِّبَا إِلَّا وَقُبِّحَ وَمُدِحَتْ مَعَهُ الزَّكَاةُ وَالصَّدَقَةُ كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الرُّومِ: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَا فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [30: 39] وَفِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [2: 276].
(ثَانِيهِمَا) أَنَّ الْإِنْفَاقَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ أَدُلُّ عَلَى التَّقْوَى وَأَشُقُّ عَلَى النُّفُوسِ وَأَنْفَعُ لِلْبَشَرِ مِنْ سَائِرِ الصِّفَاتِ وَالْأَعْمَالِ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مِثَالُهُ: إِنَّ الْمَالَ عَزِيزٌ عَلَى النَّفْسِ لِأَنَّهُ الْآلَةُ لِجَلْبِ الْمَنَافِعِ وَالْمَلَذَّاتِ، وَدَفْعِ الْمَضَارِّ وَالْمُؤْلِمَاتِ، وَبَذْلُهُ فِي طُرُقِ الْخَيْرِ وَالْمَنَافِعِ الْعَامَّةِ الَّتِي تُرْضِي اللهَ تعالى يَشُقُّ عَلَى النَّفْسِ، أَمَّا فِي السَّرَّاءِ فَلِمَا يُحْدِثْهُ السُّرُورُ وَالْغِنَى مِنَ الْأَشَرِ وَالْبَطَرِ وَالطُّغْيَانِ وَشِدَّةِ الطَّمَعِ وَبُعْدِ الْأَمَلِ، وَأَمَّا فِي الضَّرَّاءِ فَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَرَى نَفْسَهُ فِيهَا جَدِيرًا بِأَنْ يَأْخُذَ وَمَعْذُورًا إِنْ لَمْ يُعْطِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْذُورًا بِالْفِعْلِ، إِذْ مَهْمَا كَانَ فَقِيرًا لَا يَعْدِمُ وَقْتًا يَجِدُ فِيهِ فَضْلًا يُنْفِقُهُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَوْ قَلِيلًا، وَدَاعِيَةُ الْبَذْلِ فِي النَّفْسِ هِيَ الَّتِي تُنَبِّهُ الْإِنْسَانَ إِلَى هَذَا الْعَفْوِ الَّذِي يَجِدُهُ أَحْيَانًا لِيَبْذُلَهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنِ الدَّاعِيَةُ مَوْجُودَةً فِي أَصْلِ الْفِطْرَةِ فَأَمْرُ الدِّينِ الَّذِي وَضَعَهُ اللهُ لِتَعْدِيلِ الْفِطْرَةِ الْمَائِلَةِ وَتَصْحِيحِ مِزَاجِ الْمُعْتَلَّةِ يُوجِدُهَا وَيَكُونُ نِعْمَ الْمُنَبِّهُ لَهَا، وَقَدْ فَسَّرَ بَعْضُهُمُ الضَّرَّاءَ بِمَا يُخْرِجُ الْفُقَرَاءَ مِنْ هَذِهِ الصِّفَةِ مِنْ صِفَاتِ الْمُتَّقِينَ وَلَيْسَ بِسَدِيدٍ.
يَقُولُ مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدِهِ: إِنَّ تَكْلِيفَ الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ الْبَذْلَ فِي سَبِيلِ اللهِ لَا مَعْنَى لَهُ وَلَا غِنَاءَ فِيهِ وَرُبَّمَا يَقُولُ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا- يَعْنِي أنه يَنْتَقِدُ ذَلِكَ مِنَ الدِّينِ، وَالْعِلْمُ الصَّحِيحُ يُفِيدُنَا أنه يَجِبُ أَنْ تَكُونَ نَفْسُ الْفَقِيرِ كَرِيمَةً فِي ذَاتِهَا وَأَنْ يَتَعَوَّدَ صَاحِبُهَا الْإِحْسَانَ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ، وَبِذَلِكَ تَرْتَفِعُ نَفْسُهُ وَتَطْهُرُ مِنَ الْخِسَّةِ وَهِيَ الرَّذِيلَةُ الَّتِي تَعْرِضُ لِلْفُقَرَاءِ فَتَجُرُّهُمْ إِلَى رَذَائِلَ كَثِيرَةٍ، ثُمَّ إِنَّ النَّظَرَ يَهْدِينَا إِلَى أَنَّ الْقَلِيلَ مِنَ الْكَثِيرِ كَثِيرٌ، فَلَوْ أَنَّ كُلَّ فَقِيرٍ فِي الْقُطْرِ الْمِصْرِيِّ مَثَلًا يَبْذُلُ فِي السَّنَةِ قِرْشًا وَاحِدًا لِأَجْلِ التَّعْلِيمِ لَاجْتَمَعَ مِنْ ذَلِكَ أُلُوفُ الْأُلُوفِ وَتَيَسَّرَ بِهِ عَمَلٌ فِي الْبِلَادِ كَبِيرٌ، فَكَيْفَ إِذَا أَنْفَقَ كُلُّ أَحَدٍ عَلَى قَدْرِهِ، كَمَا قال تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} إِلَخْ.
إِذَا كَانَ اللهُ تعالى قَدْ جَعَلَ الْإِنْفَاقَ فِي سَبِيلِهِ عَلَامَةً عَلَى التَّقْوَى أَوْ أَثَرًا مِنْ آثَارِهَا حَتَّى فِي حَالِ الضَّرَّاءِ، وَكَانَ انْتِفَاؤُهُ عَلَامَةً عَلَى عَدَمِ التَّقْوَى الَّتِي هِيَ سَبَبُ دُخُولِ الْجَنَّةِ، فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُ أَهْلِ السَّرَّاءِ الَّذِينَ يَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ؟ وَهَلْ يُغْنِي عَنْ هَؤُلَاءِ مِنْ شَيْءٍ أَدَاءُ الرُّسُومِ الدِّينِيَّةِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي يَتَمَرَّنُونَ عَلَيْهَا عَادَةً مَعَ النَّاسِ؟
2- وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ قَالَ الرَّاغِبُ: الْغَيْظُ أَشَدُّ الْغَضَبِ وَهُوَ الْحَرَارَةُ الَّتِي يَجِدُهَا الْإِنْسَانُ مِنْ فَوَرَانِ دَمِ قَلْبِهِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْغَيْظُ أَلَمٌ يَعْرِضُ لِلنَّفْسِ إِذَا هُضِمَ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِهَا الْمَادِّيَّةِ كَالْمَالِ، أَوِ الْمَعْنَوِيَّةِ كَالشَّرَفِ، فَيُزْعِجُهَا إِلَى التَّشَفِّي وَالِانْتِقَامِ، وَمَنْ أَجَابَ دَاعِيَ الْغَيْظِ إِلَى الِانْتِقَامِ لَا يَقِفُ عِنْدَ حَدِّ الِاعْتِدَالِ وَلَا يَكْتَفِي بِالْحَقِّ بَلْ يَتَجَاوَزُهُ إِلَى الْبَغْيِ؛ فَلِذَلِكَ كَانَ مِنَ التَّقْوَى كَظْمُهُ، وَفِي رُوحِ الْمَعَانِي: إِنَّ الْغَيْظَ هَيَجَانُ الطَّبْعِ عِنْدَ رُؤْيَةِ مَا يُنْكَرُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْغَضَبِ عَلَى مَا قِيلَ أَنَّ الْغَضَبَ يَتْبَعُهُ إِرَادَةُ الِانْتِقَامِ أَلْبَتَّةَ وَلَا كَذَلِكَ الْغَيْظُ، وَقِيلَ: الْغَضَبُ مَا يَظْهَرُ عَلَى الْجَوَارِحِ وَالْغَيْظُ لَيْسَ كَذَلِكَ اهـ.
وَالِاقْتِصَارُ فِي سَبَبِ الْغَيْظِ عَلَى رُؤْيَةِ مَا يُنْكَرُ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، وَأَمَّا الْكَظْمُ فَقَدْ قَالَ فِي الْأَسَاسِ: كَظَمَ الْبَعِيرُ جِرَّتَهُ ازْدَرَدَهَا وَكَفَّ عَنِ الِاجْتِرَارِ.. وَكَظَمَ الْقِرْبَةَ مَلَأَهَا وَسَدَّ رَأْسَهَا، وَكَظَمَ الْبَابَ سَدَّهُ. وَهُوَ كِظَامُ الْبَابِ لِسِدَادِهِ. وَمِنَ الْمَجَازِ كَظْمُ الْغَيْظِ، وَعَلَى الْغَيْظِ، فَهُوَ كَاظِمٌ.
وَكَظَمَهُ الْغَيْظُ وَالْغَمُّ: أَخَذَ بِنَفَسِهِ فَهُوَ مَكْظُومٌ وَكَظِيمٌ {إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ} [68: 48] {ظِلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} [16: 58] وَ: مَا كَظَمَ فُلَانٌ عَلَى جِرَّتِهِ: إِذَا لَمْ يَسْكُتْ عَلَى مَا فِي جَوْفِهِ حَتَّى تَكَلَّمَ بِهِ. وَ: غَمَّنِي وَأَخَذَ بِكَظَمِي، وَهُوَ مَخْرَجُ النَّفَسِ وَبِأَكْظَامِي. اهـ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَصْلُ الْكَظْمِ مَخْرَجُ النَّفَسِ، وَالْغَيْظُ وَإِنْ كَانَ مَعْنًى لَهُ أَثَرٌ فِي الْجِسْمِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ عَمَلٌ ظَاهِرٌ، فَإِنَّهُ يَثُورُ بِنَفْسِ الْإِنْسَانِ حَتَّى يَحْمِلَهُ عَلَى مَا لَا يَجُوزُ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ.
فَلِذَلِكَ سَمَّى حَبْسَهُ وَإِخْفَاءَ أَثَرِهِ كَظْمًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ بَعْدَ الْإِشَارَةِ إِلَى أَصْلِ مَعْنَى الْكَظْمِ: وَمِنْهُ كَظْمُ الْغَيْظِ وَهُوَ أَنْ يُمْسِكَ عَلَى مَا فِي نَفْسِهِ مِنْهُ بِالصَّبْرِ وَلَا يُظْهِرُ لَهُ أَثَرًا.
وَيُرْوَى عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ خَادِمًا لَهَا غَاظَهَا فَقَالَتْ: لِلَّهِ دَرُّ التَّقْوَى مَا تَرَكَتْ لَذِي غَيْظٍ شِفَاءً.
3- وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ الْعَفْوُ عَنِ النَّاسِ: هُوَ التَّجَافِي عَنْ ذَنْبِ الْمُذْنِبِ مِنْهُمْ وَتَرْكِ مُؤَاخَذَتِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا، وَتِلْكَ مَرْتَبَةٌ فِي ضَبْطِ النَّفْسِ وَالْحُكْمِ عَلَيْهَا وَكَرَمِ الْمُعَامَلَةِ قَلَّ مَنْ يَتَبَوَّأُهَا، فَالْعَفْوُ مَرْتَبَةٌ فَوْقَ مَرْتَبَةِ كَظْمِ الْغَيْظِ، إِذْ رُبَّمَا يَكْظِمُ الْمَرْءُ غَيْظَهُ عَلَى حِقْدٍ وَضَغِينَةٍ.
4- وَهُنَاكَ مَرْتَبَةٌ أَعْلَى مِنْهُمَا وَهِيَ مَا أَفَادَهُ قوله تعالى: {وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} فَالْإِحْسَانُ وَصْفٌ مِنْ أَوْصَافِ الْمُتَّقِينَ، وَلَمْ يَعْطِفْهُ عَلَى مَا سَبَقَهُ مِنَ الصِّفَاتِ بَلْ صَاغَهُ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ تَمْيِيزًا لَهُ بِكَوْنِهِ مَحْبُوبًا عِنْدَ اللهِ تعالى لَا لِمَزِيدِ مَدْحِ مَنْ ذَكَرَ مِنَ الْمُتَّقِينَ الْمُتَّصِفِينَ بِالصِّفَاتِ السَّابِقَةِ، وَلَا مُجَرَّدَ مَدْحِ الْمُحْسِنِينَ الَّذِي يَدْخُلُ فِي عُمُومِهِ أُولَئِكَ الْمُتَّقُونَ كَمَا قِيلَ- فَالَّذِي يَظْهَرُ لِي هُوَ مَا أَشَرْتُ إِلَيْهِ مِنْ أنه وَصْفٌ رَابِعٌ لِلْمُتَّقِينَ كَمَا يَتَّضِحُ مِنَ الْوَاقِعَةِ الْآتِيَةِ: يُرْوَى أَنَّ بَعْضَ السَّلَفِ غَاظَهُ غُلَامٌ لَهُ فَجْأَةً غَيْظًا شَدِيدًا فَهَمَّ بِالِانْتِقَامِ مِنْهُ فَقَالَ الْغُلَامُ: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ فَقَالَ: كَظَمْتُ غَيْظِي، قَالَ الْغُلَامُ: وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ قَالَ: عَفَوْتُ عَنْكَ، قَالَ: وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ قَالَ: اذْهَبْ فَأَنْتَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللهِ. فَهَذِهِ الْوَاقِعَةُ تُبَيِّنُ لَكَ تَرَتُّبَ الْمَرَاتِبِ الثَّلَاثِ.